هل كل من لبس معطفًا أبيض هو "دكتور"؟
ما دفعني للكتابة عن هذا الموضوع تجربة شخصية مررت بها مؤخرًا. خلال وعكة صحية، ذهبت إلى عيادة أحد المختصين لأخذ حقنة وفق وصف الطبيب، وهناك التقيت بالمُجارِح الذي كان مسؤولًا عن إعطاء الحقن. أثناء حديثنا، سألته عن اسمه، فأجاب: "الدكتور فلان". صراحة، صدمت ولم أتمالك نفسي للاستمرار في الحديث. قلت في نفسي: لا، على الأقل يجب توضيح الفرق بين الدكتور وبقية الاختصاصات.
أليس من الظلم أن يساوي أي شخص نفسه بمن أفنى سنوات من عمره ليحصل على هذا العلم واللقب؟
معنى كلمة "دكتور" وأصلها
كلمة دكتور أصلها من اللاتينية docere، ومعناها: يعلّم أو يدرّس.
في الجامعات الأوروبية القديمة، كان لقب Doctor يُمنح لمن بلغ أعلى درجات العلم وأصبح مؤهلاً ليُعلّم غيره.
ثم مع مرور الوقت، ارتبط اللقب بالأطباء لأنهم كانوا من أكثر من يحصلون على تلك الدرجات، وانتقل إلى اللغة العربية بصيغته المنقولة "دكتور"، فصار يطلق على الأطباء ثم توسع استعماله ليشمل كل من له صلة بالمجال الصحي.
معنى كلمة "طبيب" في العربية
أما طبيب فهي كلمة عربية أصيلة، من الجذر ط ب ب، ومعناها الحاذق في المداواة، المصلح للأجسام والأرواح.
كلمة دافئة، صافية، تدل على المهنة لا على الوجاهة.
كان العرب يقولون: "فلان طبيب" إذا عرف كيف يداوي ويُصلح، حتى قبل وجود الشهادات.
تركنا لغتنا
مع الزمن تركنا كلمة "طبيب" جانبًا، وتمسكنا بـ "دكتور" أكثر، حتى صار خريج الطب نفسه يفضّل اللقب الأجنبي على الكلمة العربية الأصيلة، وكأنها لا توازيه في المكانة.
وهذا يعكس شيئًا من علاقتنا المتوترة مع لغتنا، إذ نميل إلى المستورد اللامع على حساب الأصيل العريق.
استعمال اللقب اليوم
اليوم، لا يقتصر الأمر على الطبيب البشري أو الأكاديمي الحاصل على دكتوراه.
  
في الواقع الاجتماعي، كثيرًا ما يُنادى بالعاملين في القطاع الصحي بـ"دكتور" كعرف عملي، حتى لو كانوا لا يحملون درجة دكتوراه أكاديمية. أما في السياق العلمي فـ"الدكتور" يعني عادةً الحاصل على درجة الدكتوراه، ولذلك من الأفضل في السياقات الرسمية توضيح المؤهل
(مثال: "حاصل على دكتوراه في ...")
  
الصيدلي، طبيب الأسنان، خريج البكالوريوس.
من يسحب الدم في المختبر.
الفني الذي يجري فحصًا بسيطًا.
بل حتى "المُجارِح" أو من يمارس خياطة الجروح في الأحياء الشعبية.
هذا تضخيم غير عادل، يُساوي بين من أفنى سنوات طويلة في الدراسة والبحث وبين من لم يتجاوز تدريبًا قصيرًا.
الصيدلة وطب الأسنان
قد يتساءل البعض: لماذا يُخاطَب الصيدلي أو طبيب الأسنان بلقب "دكتور" أحيانًا؟
الجواب أن الأمر يختلف بحسب النظام التعليمي:
في بعض الدول الغربية (مثل الولايات المتحدة)، يحصل الصيدلي على شهادة دكتور في الصيدلة (PharmD)، وكذلك طبيب الأسنان على دكتور في جراحة الأسنان (DDS أو DMD)، وهي شهادات مهنية تحمل مسمى "دكتور".
أما في أغلب الدول العربية، ما زالت هذه التخصصات تُدرّس على مستوى البكالوريوس أو الماجستير، ومع ذلك جرى العرف الاجتماعي أن يُطلق عليهم لقب "دكتور"، رغم أن الدقة الأكاديمية لا تقتضي ذلك.
هذا يعني أن استخدام اللقب في هذه الحالات ليس موحّدًا عالميًا، بل يتأثر بالأنظمة التعليمية والعادات المحلية. ومن هنا يزداد الالتباس في المجتمعات، فيظن الناس أن كل من يعمل في مجال الصحة، مهما كان اختصاصه، يستحق لقب "دكتور".
طبيب العيون
في بعض الدول
طبيب العيون هو في الأصل طبيب بشري تخرّج من كلية الطب (MBBS أو ما يعادلها)، ثم تخصّص بعد ذلك في طب وجراحة العيون.
لذلك:
هو طبيب بالمعنى العربي الأصيل، لأنه درس الطب العام أولًا.
وهو "دكتور" أيضًا بالمعنى الاجتماعي والعلمي، لأنه خريج كلية الطب.
لكن الالتباس أحيانًا يأتي من أن هناك مهنًا أخرى قريبة من مجال العيون:
فاحص البصر (Optometrist): في بعض الدول هو شخص مؤهل لإجراء فحوص نظر ووصف نظارات، لكنه ليس طبيبًا بشريًا بالمعنى التقليدي.
فني بصريات (Optician): يختص بصناعة وتجهيز النظارات والعدسات الطبية حسب الوصفة.
وهنا الفرق مهم:
طبيب العيون = درس الطب البشري، متخصص في علاج وجراحة أمراض العيون.
فاحص البصر أو فني البصريات = ليس طبيبًا، لكنه ممارس صحي مختص في فحص أو تجهيز النظارات.
إذن:
طبيب العيون يستحق لقب "طبيب" بل و"دكتور" بحكم دراسته الطب البشري.
لكن لا يصح مساواة فاحص البصر أو فني البصريات بالطبيب، رغم أن المجتمع أحيانًا يطلق عليهم نفس اللقب بدافع العرف.
نصيحة
إذا تم استخدام كلمة "دكتور" بسبب العادات الشائعة والتي لا يمكن تغييرها بسهولة، فلنكن منصفين في توزيعها ولنُعطِ كل ذي حق حقه:
"دكتور" لحملة الدكتوراه ولأطباء الطب البشري بحكم تاريخ اللقب.
"طبيب" لمن يمارس مهنة المداواة كما عرّفتها لغتنا الجميلة.
وبقية المهن الطبية لها أسماؤها النبيلة: صيدلي، ممرض، مجارح، فني مختبر… ولا تنتقص من صاحبها إذا ناديناه باسمه الصحيح.
  
  نحن لا ننكر احترام المهن ولا العرف الاجتماعي، لكن
الصدق في الألقاب احترام للنفس قبل أن يكون احترامًا للآخرين.
ولعل المسألة أبعد من مجرد لقب.
إنها صورة عن علاقتنا بالعلم، وباللغة، وبأنفسنا.
حين نفرّط في كلمة "طبيب" لصالح "دكتور"، فنحن لا نترك مجرّد لفظ، بل نترك تاريخًا ضاربًا في جذورنا.
زاهر ڤويس جميع الحقوق محفوظة © 2025

تعليقات
إرسال تعليق