ظاهرة النينيو والنينيا
حين يختل تنفُّس المحيط
في عمق المحيط الهادئ، حيث تهب الرياح التجارية بثبات منذ قرون، يحدث أحيانًا أن يتغيّر النسق. لا يعود الشرق كما كان، ولا الغرب كما ألفناه. يختل توازن الماء والهواء، فينقلب المناخ رأسًا على عقب. تلك اللحظة تُعرف باسم النينيو El Niño وشقيقتها المعاكسة النينيا La Niña، ظاهرتان طبيعيتان تُعيدان صياغة الطقس، ليس فقط على مستوى المحيط، بل على امتداد الكوكب.
أنشئت الصورة بواسطة المؤلف باستخدام ChatGP
كيف تبدأ الحكاية؟
يبدأ كل شيء من الرياح التجارية، تلك التي تهب عادة من الشرق إلى الغرب، دافعةً المياه السطحية الدافئة نحو غرب المحيط (قرب أستراليا وإندونيسيا). حين يحدث خلل أو ضعف في هذه الرياح، تعجز عن دفع الكتلة الدافئة، فتبقى مكدّسة في الشرق، قرب سواحل الإكوادور وبيرو. هذه الزيادة غير الطبيعية في حرارة سطح المحيط تخلق ظاهرة "النينيو".
أما حين تشتد الرياح التجارية أكثر من المعتاد، فإنها تدفع كميات أكبر من المياه الدافئة نحو الغرب، مخلّفةً مياهًا سطحية أكثر برودةً في الشرق. وهنا تظهر "النينيا".
الفرق بينهما ليس في الاتجاه فقط، بل في التأثير أيضًا.
رقصة الماء بين الشرق والغرب
في المحيط، لا يحدث شيء في معزل عن طرفه الآخر. فحين ترتفع حرارة سطح الماء في شرق الهادئ، تتراجع الكتلة الدافئة التي كانت تُدفَع غربًا إلى سواحل أستراليا وإندونيسيا. ومع هذا التراجع، تبرد المياه نسبيًا في الغرب، ويتناقص التبخر، فتنخفض الأمطار. هكذا تتحول مناطق معتادة على الخصب والمطر إلى أراضٍ قاحلة تئن من الجفاف والحرائق، كما شهدته أستراليا وبلدان جنوب شرق آسيا خلال نينيو 1982 و 2015.
أما في النينا، فيحدث العكس تمامًا. تُدفَع الكتلة الدافئة بقوة نحو الغرب، فتزداد سخونة المياه في أستراليا والفلبين، ويعلو التبخر، وتهطل الأمطار الغزيرة. هذا التدفق يُغرق الحقول، ويحول الفيضانات إلى مشهد موسمي مألوف.
وهكذا، يرقص الماء بين طرفي المحيط كراقصتيْن متقابلتيْن: حين تتقدم واحدة، تتراجع الأخرى. إنها رقصة لا تُقاس بالموسيقى، بل بنبض الأرض والسماء، وبرجّات الرياح على سطحٍ أزرق لا يهدأ.
النينيو والنينا .. وتأثيرها على العالم
ما يحدث في المحيط لا يبقى في المحيط. هذه الظواهر تمتد بتأثيرها إلى:
الطقس:
تسبب النينيو فيضانات في أمريكا الجنوبية، وجفافًا في أستراليا والهند، ودفئًا في مناطق من كندا وشمال أوروبا. أما النينا، فتميل لإحداث برودة شتوية شديدة في الولايات المتحدة، وأمطار غزيرة في آسيا.
الزلازل والبراكين:
رغم أن الرابط ليس مباشرًا، إلا أن بعض الدراسات تشير إلى تغيّرات في الضغط الجوي والمائي قد تساهم في تحفيز النشاط الزلزالي، خصوصًا في "حلقة النار" حول المحيط الهادئ.
الأسماك والكائنات البحرية:
ترتفع حرارة المياه في شرق الهادئ خلال النينيو، فتهرب الأسماك من المناطق الساحلية التي تفتقر للأوكسجين البارد، مما يؤدي إلى تراجع حاد في الصيد، وتأثيرات اقتصادية على المجتمعات الساحلية. أما في النينا، فتعود تيارات التغذية الباردة، وتنتعش الحياة البحرية.
الجفاف:
النينيو يُضعف التيارات الباردة الصاعدة (upwelling)، فيمنع هطول الأمطار في بعض المناطق المدارية، ويُغرق أخرى. إنه اختلال في ميزان الرطوبة العالمي.
المجال الجيومغناطيسي والتوهجات الشمسية؟
لا علاقة مباشرة مثبتة بين هذه الظواهر والنينيو/النينيا، لكنها كلها تؤثر على نظام الأرض المناخي بطرق مختلفة. وما يزال العلماء يدرسون التداخلات المعقّدة بينها.
كل كم سنة تحدث؟ ولماذا تتباعد؟
النينيو والنينا ليستا ظاهرتين سنويتين، بل تحدثان ضمن ما يُعرف بـ دورة ENSO (تذبذب النينيو الجنوبي). تتكرّر عادةً كل 2 إلى 7 سنوات، وقد تطول أو تقصر حسب تغيرات الرياح وسطح المحيط.
أحيانًا، لا تحدث نينيو أو نينا بل تبقى الحالة محايدة، وهي مرحلة وسطية طبيعية. تباعد الفترات واختلاف الشدة يعود إلى عوامل داخلية في المحيط والغلاف الجوي، ولا تزال محل دراسة مكثفة.
رسالة من قلب المحيط
النينيو والنينا ليستا مجرد ظاهرتين طبيعيتين، بل صوت المحيط حين يختل توازنه. رسالة يبعث بها الماء إلى اليابسة، يخبرها بأن الرياح لم تعد تهب كما ينبغي، وأن سخونة السطح لم تعد مجرد مسألة درجات.
إنها تذكير بأن الكوكب كيان حيّ، وأن التغير المناخي اليوم قد يزيد من حدة هذه الظواهر، ويجعل آثارها أشد وأوسع مما مضى.
فهل سننصت؟
تعليقات
إرسال تعليق