الخنساء.. دمعةٌ لا تنضب، وشجاعةٌ لا تخبو
من رثاء أخيها إلى تزكية النبي
(75ق.هـ – 14هـ / 575م – 664م)
تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد، المعروفة بـ الخنساء، اسمٌ يلمع في سماء الشعر العربي كما تلمع النجوم بعد غروب القمر. وُلدت في نجد، في قبيلة بني سُليم، وكانت من نساء العرب القليلات اللاتي جمعن بين عذوبة البيان وقوة الشخصية وصدق الموقف.
أنشئت الصورة بواسطة المؤلف باستخدام ChatGP
لقبت بالخنساء، وهي صفة تُطلق في العرب على من كانت أنفها قصيرة الأرنبة مرفوعة، وقد اشتهرت بها منذ صباها. عاشت معظم عمرها في العصر الجاهلي، ثم أدركت الإسلام وأقبلت عليه بقلب مؤمن، فحسُن إسلامها وأصبحت مثالًا في قوة العقيدة ورجاحة العقل.
الشاعرة التي بكت حتى أُصيبت بالعمى
عُرفت الخنساء برثائها الحارق لأخيها صخر، الذي قُتل في الجاهلية مع أخيها معاوية. ومنذ فقدته، تفجّر في قلبها نبعٌ لا ينضب من الحزن، جعلها من أبرز شاعرات الرثاء على مر العصور. كانت لا تفتأ تبكيه حتى أُصيبت بالعمى، ومع ذلك ظل شعرها يُبصر ما عجزت عنه العين، وكان لها في كل بيت حزنٌ نازف:
ما بالُ عينيك منها دمعُها سَرَبُ
أراعَها حُزنٌ أم عادَها طَرَبُ؟
أم ذِكرُ صخرٍ بعيدِ النومِ هيّجها
فالدمعُ منها عليه الدهرُ ينسكبُ؟
لقد قال عنها النبي الكريم محمد ﷺ: إنها من أشعر الناس"، وهو وسام لا يُمنح جزافًا، بل شهادةٌ نبوية على أن الشعر حين يخرج من قلبٍ صادق، يهز الأرواح ويخلد.
أمّ الشهداء .. حين ارتفعت الكلمة على الدم
في زمن الخلافة الراشدة، دفعت الخنساء بأبنائها الأربعة إلى ساحة الجهاد، فلما بلغها نبأ استشهادهم جميعًا، لم تجزع ولم تلطم، بل قالت بهدوء المؤمنين:
"الحمد لله الذي شرّفني باستشهادهم، وأرجو أن يجمعني بهم في مستقرّ رحمته."
بهذا الموقف النبيل، سجّلت الخنساء أعظم رثاءٍ صامت، لا يحتاج إلى قصيدة، بل يكفيه صبرٌ نادر وشرفٌ لا يُشترى.
لماذا نكتب عن الخنساء اليوم؟
لأنها امرأة لا تُنسى .. جمعت بين الدمع والصلابة، بين الحرف والسيف، وبين حزن القلب وقوة اليقين. تكتب عنها فتتعلم الصبر، وتستمع إلى شعرها فتفهم كيف تتحول المأساة إلى فن، والفقد إلى شرف.
تعليقات
إرسال تعليق