كيف يُمكن لتاريخ شعوب بأكملها أن يُطمس تحت سطوة السجلات المهيمنة؟
وهل نملك اليوم جرأة إعادة كتابته؟
في هذا المقال نعيد فيها قراءة بعض "المكتشفين" الذين سطّروا أسماءهم في كتب التاريخ، لا بالعلم والمعرفة، بل بالنار والحديد. سنروي قصة من لم يُروَ عنه، ونسلط الضوء على وجوه طُمست عمدًا.
www.ZaherVoice.com©
العناوين:
* حين يُسمّى الغزو اكتشافًا - من يكتب التاريخ؟
* كريستوفر كولومبوس: الرحالة الذي ضلّ الطريق وسُمي مكتشفًا
* أميركو فسبوتشي: الرجل الذي سُميت القارة باسمه ونسيه التاريخ
* قبل كولومبوس: هل وصل المسلمون إلى أمريكا؟
* لابو لابو و ليوبولد الثاني: حين يختار التاريخ جلاديه ويتجاهل أبطاله
* أمريكا: لمن تُنسب؟ فسبوتشي، كولومبوس، أم من سبقهم؟
* من كولومبوس إلى فسبوتشي: التحدي في إعادة كتابة تاريخ أمريكا
* هل كان "الاكتشاف" مجرد زعم؟ الحقيقة وراء المأساة المستمرة لشعوب أمريكا الأصلية
* الملكة ماري الأولى: ضحية الظلم التاريخي
* السلطان لابو لابو: مقاوم الاستعمار في الفلبين
حين يُسمّى الغزو اكتشافًا من يكتب التاريخ؟
لطالما اعتدنا في الكتب المدرسية وعلى ألسنة المؤرخين أن نسمع أسماءً محددة تُقرَن بـ"الاكتشافات الكبرى": كريستوفر كولومبوس مكتشف أمريكا، ماجيلان، فاسكو دا غاما مكتشف طريق الهند .. غير أن هذه الأسماء، على شهرتها، تخفي وراءها سردية أخرى قلّ من يرويها، سردية تُروى بصوت الضحية، لا الغالب.
تنويه: تم استخدام الصورة المرافقة لأغراض ثقافية أو توضيحية أو سردية، مع حفظ كامل الحقوق لأصحابها الأصليين
لكن ما معنى "الاكتشاف" أصلًا؟ هل وصول سفينة أوروبية إلى أرض مأهولة بالبشر، تحوي ثقافات وحضارات، يعني أن هذه الأرض كانت مجهولة؟ وهل يصبح من ينهب ويقتل ويستوطن "مكتشفًا" فقط لأنه كتب قصته بلغة المنتصر؟
كريستوفر كولومبوس لم يكن يعلم أنه وصل إلى قارة جديدة، بل ظن أنه وصل إلى الهند، وأخطأ الطريق. ومع ذلك نُسب إليه اكتشاف أمريكا، بينما نُسي من جاء بعده بدقة علمية، مثل أميركو فسبوتشي الذي عرفت القارة باسمه، دون أن ينال من الضوء ما يكفي.
وماجيلان، الذي قتله السلطان الفلبيني لابو لابو،
لأنه طالب بالجزر للتاج الإسباني. أما من دافع عن أرضه وقتل الغازي، فقليل من يعرف اسمه.
وفي أفريقيا، لا يُذكر اسم الملك البلجيكي ليوبولد الثاني إلا نادرًا، رغم ارتكابه واحدة من أبشع المجازر في التاريخ في الكونغو. لماذا؟ لأن التاريخ يُكتَب من موقع القوة، لا من ضمير الحقيقة.
كريستوفر كولومبوس: الرحالة الذي ضلّ الطريق وسُمي مكتشفًا
في عام 1492م، أبحر كريستوفر كولومبوس من إسبانيا قاصدًا الهند، لكنه لم يصل إليها قط. بل وجد نفسه على سواحل جزر البهاماس، معتقدًا أنه بلغ "الهند الغربية"، ولهذا أطلق على السكان الأصليين اسم "الهنود الحمر". ومع هذا الخطأ الجغرافي الفادح، كُرّم بوصفه "مكتشف العالم الجديد"، وخلّد اسمه في كتب التاريخ، وكأن القارة كانت خالية من البشر.
تنويه: تم استخدام الصورة المرافقة لأغراض ثقافية أو توضيحية أو سردية، مع حفظ كامل الحقوق لأصحابها الأصليين
لكن، هل يمكن اعتبار من يضلّ الطريق "مكتشفًا"؟
هل يُكرَّم ملاحٌ أخطأ في الحساب، بينما تُنسى شعوب كانت تعيش منذ آلاف السنين على تلك الأرض، بثقافتها وحضارتها وحياتها الخاصة؟
لم يكن كولومبوس أول من وصل إلى أمريكا. ثمة دلائل تشير إلى أن الفايكنغ، بقيادة ليف إريكسون، سبقوه بقرون إلى سواحل كندا. وهناك نظريات قوية حول وجود اتصالات بين المسلمين وأمريكا الجنوبية قبل كولومبوس، كما سنعرض لاحقًا. ومع ذلك، لم يحظَ أيٌّ منهم بلقب "المكتشف"، إلا من كتب القصة بيده.
والأدهى، أن رحلات كولومبوس لم تكن اكتشافًا علميًا بقدر ما كانت غزوًا اقتصاديًا. في تقاريره إلى التاج الإسباني، لم يذكر إعجابه بجمال الطبيعة، بل بضعف السكان الأصليين، وسهولة استعبادهم، وكثرة الذهب.
في رحلاته التالية، لم يأتِ بالمعرفة، بل عاد بالسيوف، وارتُكبت مذابح، وبيعت النساء والأطفال، وبدأ عهد من الاستعمار الدموي ما زالت آثاره باقية حتى اليوم.
أميركو فسبوتشي: الرجل الذي سُميت القارة باسمه ونسيه التاريخ
في ظلال شهرة كريستوفر كولومبوس، يقف اسم آخر، أقل شهرتا وأكثر دقة: أميركو فسبوتشي، الرحالة الإيطالي الذي لم "يضلّ الطريق" بل فهم تمامًا أنه يقف على أرض قارة جديدة، لا تشبه الهند ولا آسيا.
www.ZaherVoice.com©
بين عامي 1497 و 1504، قام فسبوتشي بعدة رحلات إلى سواحل أمريكا الجنوبية والشرقية، ودوّن ملاحظاته بدقة، متحدثًا عن نجوم مختلفة، وسكان أصليين بثقافات فريدة، وأرض لم تُذكر في أي من خرائط العالم القديم.
وفي رسالة مشهورة، كتب فسبوتشي أن هذه الأرض ليست امتدادًا للهند، بل "عالم جديد" تمامًا. هذه الجرأة العلمية هي التي جعلت
الجغرافي الألماني مارتن فالدسميلر
في عام 1507، يطلق على القارة اسم "أمريكا"، تكريمًا لفسبوتشي.
فلماذا ننسى الرجل الذي سمّينا باسمه نصف الكرة الأرضية؟ لماذا لا يُدرّس اسمه في المناهج إلا كهامش؟ وهل آن الأوان لإعادة الاعتبار لمن فهم القارة لا لمن وصل إليها بالصدفة؟
قبل كولومبوس: هل وصل المسلمون إلى أمريكا؟
حين نقرأ خرائط بيري ريس أو نستعرض فرضية رحلة الملك المالي "أبو بكر الثاني"، نبدأ بإعادة طرح السؤال المقلق: هل كان هناك من وصل إلى أمريكا قبل كريستوفر كولومبوس؟ بيري ريس، البحّار العثماني، رسم عام 1513 خريطة مذهلة تُظهر السواحل الشرقية للأمريكتين بدقة لافتة. ما يثير الحيرة أنها رُسمت قبل أن تكتمل اكتشافات الأوروبيين بسنوات، وبوسائل بدائية لا تسمح بهذه الدقة.
تنويه: تم استخدام الصورة المرافقة لأغراض ثقافية أو توضيحية أو سردية، مع حفظ كامل الحقوق لأصحابها الأصليين
رسمه هذا لا يُثبت فقط تقدم المعرفة الجغرافية في العالم الإسلامي، بل يُلمح إلى وجود مصادر معلومات مفقودة — ربما من رحّالة مسلمين سابقين.
أما الملك أبو بكر الثاني، شقيق منسا موسى، فقد تخلّى عن عرشه في مالي عام 1311م، وأبحر بأسطول ضخم لاكتشاف أراضٍ جديدة في المحيط الأطلسي. تقول الروايات إنه لم يعد، لكن ما من دلائل قاطعة تنفي أنه وصل إلى السواحل الأمريكية، خاصة وأن آثارًا لغوية وثقافية في بعض قبائل أمريكا اللاتينية تحمل بصمات إفريقية وإسلامية، مثل كلمات "أمه" و"إمام" في بعض لغات المايا القديمة.
تنويه: تم استخدام الصورة المرافقة لأغراض ثقافية أو توضيحية أو سردية، مع حفظ كامل الحقوق لأصحابها الأصليين
بل إن كولومبوس نفسه، في يومياته، أشار إلى أنه
شاهد "بناء على قمة جبل يشبه المسجد"، وذلك في إحدى رحلاته في منطقة الكاريبي، وإن كانت عباراته غامضة. لكن لم يُعثر على دليل أثري أو وثائقي قاطع يُثبت وجود مسجد في أمريكا قبل كولومبوس، لكن هناك إشارات وتأويلات تُستخدم في أبحاث التاريخ البديل، ومنها خرائط بيري ريس، وتشابه بعض النقوش أو الكلمات.
فهل كانت أمريكا مأهولة باتصالات عابرة للقارات قبل الغزو الأوروبي؟
وهل نعيد تعريف "الاكتشاف" حين ندرك أن هناك من عرف الطريق، لكن لم يمتلك جيشًا لفرض روايته؟
لابو لابو و ليوبولد الثاني: حين يختار التاريخ جلاديه ويتجاهل أبطاله
تنويه: تم استخدام الصورة المرافقة لأغراض ثقافية أو توضيحية أو سردية، مع حفظ كامل الحقوق لأصحابها الأصليين
حين يُذكر اسم "ماجيلان"، تنسب إليه "الإكتشاف"، وتُخلّد رحلاته حول العالم في المناهج وكتب التاريخ. ماجيلان قاد بعثة بإذن من ملك إسبانيا شارل الخامس، وكان الهدف منها تأمين طريق تجاري جديد والوصول إلى جزر التوابل، وضم الأراضي التي يمر بها للتاج الإسباني.
عندما وصل إلى جزر الفلبين، قام بتنصير بعض السكان وتحالف مع بعض السلاطين المحليين، وطالب بقية الجزر بدفع الجزية للملك الإسباني.
رفض السلطان لابو لابو ذلك، وواجهه في معركة ماكتان وقتل ماجيلان فيها.
إذن، ماجيلان لم يأت باحثًا بريئًا عن المعرفة أو مكتشفًا محايدًا، بل كان جزءًا من مشروع استعماري عسكري وديني.
لكن قلّما يُذكر اسم لابو لابو، الرجل الذي تصدى له ووقف في وجه الطغيان. سلطان جزيرة "ماكتان"، وقائد مقاومة رفض الخضوع لتهديدات ماجيلان وملك إسبانيا، فهزمه في معركة بطولية عام 1521م، وقتله على سواحل الجزيرة.
لابو لابو لم يكن فاتحًا، بل مدافعًا عن أرضه وعقيدته وكرامة قومه. ومع ذلك، ظل تاريخه على هامش السرد الغربي، بينما تُرفع تماثيل "المكتشف" ماجيلان في الميادين.
في المقابل، نُسج صمت مريع حول سفّاح حقيقي: ليوبولد الثاني ملك بلجيكا، الذي حول الكونغو إلى مزرعة خاصة أو بالأحرى جزءا من ممتلكاته الخاصة، وأباد أكثر من 10 ملايين من أهلها. في زمن الحداثة الأوروبية، سادت الفظائع: قطع الأيدي، شنق الأطفال، واغتصاب النساء، بحجة سياسات العمل المستخدمة لجمع المطاط الطبيعي للتصدير.
تنويه: تم استخدام الصورة المرافقة لأغراض ثقافية أو توضيحية أو سردية، مع حفظ كامل الحقوق لأصحابها الأصليين
لكن من يكتب التاريخ، يختار أبطاله بعناية. فالغزاة يُسمون "مستكشفين"، والمقاومون يُتجاهلون، والقتلة يُنسَون، إن لم يكونوا أعداءً للمنتصرين.
فهل آن الأوان أن نعيد تسمية الأشياء بأسمائها؟
أن نحتفي بمن دافع عن أرضه، لا بمن داسها؟
أن نقرأ التاريخ بعيون الشعوب، لا بنصوص المحتلين؟
أمريكا: لمن تُنسب؟ فسبوتشي، كولومبوس، أم من سبقهم؟
حين تُذكر "اكتشافات" العالم الجديد، لا يمكن أن يمر اسم كريستوفر كولومبوس دون أن يتصدر المشهد. هذا المستكشف الإيطالي الشهير، الذي يُعتقد أنه وصل إلى العالم الجديد عام 1492م، يُعتبر على نطاق واسع مكتشف أمريكا. لكن، هل كان كولومبوس هو أول من وصل إلى أمريكا؟
الجواب قد يكون لا، وإن كان ذلك سؤالًا مثيرًا للجدل في الأوساط الأكاديمية.
أمريكو فسبوتشي، الرحالة الإيطالي الذي سافر إلى أمريكا الجنوبية في أواخر القرن الـ15، كان من بين أول من أدرك أن الأرض التي وصل إليها ليست جزءًا من آسيا كما كان يظن كولومبوس، بل هي قارة جديدة تمامًا. وتنسب إليه تسمية "أمريكا" تخليدًا لذكراه في الخرائط والتاريخ، رغم أن فسبوتشي لم يكن أول من اكتشف هذا الجزء من العالم.
الأدلة التاريخية تشير إلى أن هناك من سبق كولومبوس إلى الأراضي الأمريكية، سواء من الرحالة الفايكنغ في القرن الـ10 أو المسلمين الذين قد يكونون قد وصلوا إلى سواحل أمريكا في وقتٍ مبكر.
لكن على الرغم من ذلك، تم تجاهل هذا التاريخ في معظم الكتب المدرسية.
تنويه: تم استخدام الصورة المرافقة لأغراض ثقافية أو توضيحية أو سردية، مع حفظ كامل الحقوق لأصحابها الأصليين
هل كان "الاكتشاف" يعني فقط الوصول إلى أراضٍ لم يكتشفها الأوروبيون من قبل؟ أم أن تلك الأراضي كانت مأهولة بشعوب حية؟
هل كان مجرد "الوصول" إلى السواحل هو المعيار الذي بُنيت عليه فكرة "الاكتشاف"؟ أم أنه يجب مراعاة التاريخ الطويل لشعوب هذه الأراضي، والذين عاشوا على تلك الأرض لعشرات الآلاف من السنين؟
الحقائق التاريخية تتطلب منا إعادة النظر في هذه الأسئلة، وتقديم رواية أكثر عدلاً وواقعية، توازن بين تكريم الذين سبقوا في اكتشافات هذه الأراضي وبين التقدير لمن عاصروا هذه الاكتشافات وحاولوا الحفاظ على هوياتهم وحضاراتهم.
من كولومبوس إلى فسبوتشي: التحدي في إعادة كتابة تاريخ أمريكا
إعادة كتابة التاريخ أمر بالغ الأهمية، خاصة عندما يتعلق الأمر بمسألة "اكتشاف" أمريكا. في الواقع، تاريخ اكتشاف أمريكا كما نعرفه اليوم هو بناء مركب من روايات انتصرت فيها القوى الاستعمارية. غالبًا ما يُنسب الفضل في "اكتشاف" القارة إلى كريستوفر كولومبوس، رغم أن أمريكو فسبوتشي كان من أوائل من أدركوا أنها قارة جديدة تمامًا، وليست جزءًا من قارة آسيا كما كان يعتقد كولومبوس.
تحديات إعادة كتابة التاريخ
أولاً: هناك مقاومة تاريخية لفكرة أن أناسًا آخرين قد سبقوا كولومبوس إلى الأراضي الأمريكية. إذ تشير العديد من الأدلة إلى الوجود الفايكنغز في أمريكا الشمالية قبل وصول كولومبوس، وكذلك الأدلة على التجارة الإسلامية عبر المحيط الأطلسي، والتي تُظهر احتمال وصول المسلمين إلى أمريكا قبل القرن الـ15. إلا أن هذه الأدلة لم تجد المساحة المناسبة في السجلات الرسمية.
ثانيًا: التحدي الأكبر في إعادة كتابة تاريخ اكتشاف أمريكا هو التوازن بين الحقائق التاريخية والروايات الاستعمارية. فبينما يجب أن نُعلي من شأن أمريكو فسبوتشي والرحالة الفايكنغ، لا يمكننا تجاهل المأساة التي ألمت بالشعوب الأصلية عندما وصل الأوروبيون إلى العالم الجديد. فهذه الشعوب لم تكن مجرد "مناطق غير مكتشفة"، بل كانت حضارات قائمة منذ آلاف السنين.
تسليط الضوء على الضحايا
عندما نتحدث عن اكتشافات العالم الجديد، فإن من الضروري أن نذكر ضحايا هذه الاكتشافات. إن كل صراع طويل الأمد بين المستعمرين و الشعوب الأصلية لم يكن إلا بداية لما ستسفر عنه سنوات من الاستعباد والدمار. فكل "استكشاف" كان يعقبه استعباد للإنسان، وكولومبوس نفسه كان شاهدًا على بداية هذه الحكاية المأساوية.
تنويه: تم استخدام الصورة المرافقة لأغراض ثقافية أو توضيحية أو سردية، مع حفظ كامل الحقوق لأصحابها الأصليين
هل حقًا تم اكتشاف أمريكا؟
يمكن القول إن الشعوب الأصلية كانت قد اكتشفت أمريكا قبل أي شخص آخر، وبالتالي كان من الأفضل استخدام مصطلحات مختلفة مثل "الاستعمار" أو "الاستكشاف" بدلاً من "الاكتشاف". فالحقيقة أن هناك معركة طويلة من أجل إعادة التأكيد على حق الشعوب الأصلية في أن تكون هي صاحبة أولويات القارة.
هل كان "الاكتشاف" مجرد زعم؟ الحقيقة وراء المأساة المستمرة لشعوب أمريكا الأصلية
عندما نعيد النظر في قصة "اكتشاف" أمريكا، يجب أن نأخذ في الاعتبار أن هذا الاكتشاف لا يتعلق فقط بتحديد مواقع جديدة أو عبور المحيطات، بل يتعلق أيضًا بتاريخ طويل من الظلم والاستغلال. فالشعوب الأصلية في أمريكا، الذين كانوا يسكنون هذه الأراضي لآلاف السنين، تم تدمير ثقافاتهم وتهجيرهم قسريًا بمجرد أن وطأت قدما المستكشفين الأوروبيين على سواحلهم.
الشعوب الأصلية: هم أول من "اكتشف" أمريكا
الشعوب الأصلية في أمريكا ليست مجرد "ضيوف جدد" في تاريخ القارة، بل هم السكّان الأصليون الذين عاشوا على هذه الأرض لآلاف السنين قبل أن يكتشفها الأوروبيون. لذلك، يكون من الأدقّ القول إن الأوروبيين لم "يكتشفوا" أمريكا، بل قاموا بغزوها وتدمير ما كان قائمًا فيها من حضارات متقدمة ومجتمعات منظمة. وهذه المجتمعات كانت تملك تقاليد وثقافات غنية، وكان لها ممارسات دينية وفنية وتقنيات معمارية متطورة.
بداية المأساة
عندما وصل كريستوفر كولومبوس إلى جزر الكاريبي في عام 1492م، وأعلن عن "اكتشاف" أمريكا، كان الواقع مختلفًا تمامًا. فقد كان هناك بالفعل شعوب متعددة قد أسست حضارات ومجتمعات مستقرة على مدار آلاف السنين. ومع مرور الوقت، تحولت تلك اللحظة التاريخية من اكتشاف إلى بداية مأساة مستمرة.
لقد أدت الاستعمارية الأوروبية إلى إبادة جماعية لشعوب الهنود الحمر، بالإضافة إلى التدمير الثقافي، والاستعباد، وأخذ الموارد الطبيعية. بدأت الأمراض الأوروبية بالانتشار بين السكان الأصليين، مما أسفر عن مقتل نسبة كبيرة منهم، حيث قدرت الأبحاث أن أكثر من 90% من السكان الأصليين قد ماتوا بسبب الأوبئة في الأعوام الأولى من وصول الأوروبيين.
هل يمكننا إعادة كتابة التاريخ؟
الحاجة لإعادة كتابة تاريخ اكتشاف أمريكا هي أمرٌ جوهري. فالمفهوم الغربي للأحداث التاريخية غالبًا ما يركز على "الإنجازات" الأوروبية دون تقديم صورة عادلة لما حدث للشعوب الأصلية. وبدلاً من مجرد الاعتراف بالمأساة، يمكننا تسليط الضوء على القيم الثقافية والحضارية التي كانت موجودة في المجتمعات الأصلية وكيف تم القضاء عليها مع وصول الاستعمار الأوروبي.
إنه لمن الضروري أن نستعيد الحقائق حول تاريخ أمريكا والشعوب التي كانت تسكنها، مع الاعتراف بأن التاريخ لا ينقلب بمجرد وصول الأوروبيين. ولكن التوثيق الصحيح والتقدير للمجتمعات الأصلية يجب أن يكون جزءًا من إعادة كتابة التاريخ.
الملكة ماري الأولى: ضحية الظلم التاريخي
www.ZaherVoice.com©
الملكة ماري الأولى، التي أُطلق عليها لقب "ماري الدموية"، عُرفت بتعاملها القاسي مع معارضيها، ولكن التاريخ غالبًا ما ظلمها في تصوير شخصيتها. صحيح أن ماري أمرت بإعدام عدد من البروتستانت في محاولة لاستعادة الكاثوليكية في إنجلترا، لكن يجب أن نذكر أن هذه القرارات لم تكن فريدة من نوعها في التاريخ الملكي. فقد تسببت أفعال والدها، هنري الثامن، في قتل العديد من الشخصيات في سبيل فرض سلطته، بما في ذلك إعدام زوجاته وإعدام العديد من الأبرياء. ومن الجدير بالذكر أن ماري كانت في وضعٍ صعب، حيث ورثت مملكةً ممزقة، وكانت قراراتها ناتجة عن سياق سياسي معقد لم يكن لها يد فيه بالكامل. لذا، لا يمكن أن تكون "دمويتها" سوى نتيجة للظروف المحيطة بها، بل إنها أصبحت ضحية لتاريخ كتب عنها بقسوة، بينما تم تجاهل الظروف التي شكلت تلك القرارات.
وفي المقابل، نجد أن الملك ليوبولد الثاني من بلجيكا، الذي يُعد واحدًا من أكبر السفاحين في التاريخ، لم يُلقَ عليه لقب "الدموي" رغم أنه كان مسؤولًا عن قتل أكثر من 10
ملايين شخص في الكونغو خلال فترة استعمار بلاده.
بالإضافة إلى التعذيب الجماعي، استعباد السكان الأصليين، واغتصاب النساء، إلا أن تاريخ ليوبولد الثاني غالبًا ما تم تزييفه أو تجاهله في الغرب، بينما اُعتبرت ماري "الدموية" لمجرد تصديها للأعداء في سياق ديني وسياسي معقد.
السلطان لابو لابو: مقاوم الاستعمار في الفلبين
تنويه: تم استخدام الصورة المرافقة لأغراض ثقافية أو توضيحية أو سردية، مع حفظ كامل الحقوق لأصحابها الأصليين
عندما نذكر الاستعمار الإسباني في الفلبين، يتبادر إلى أذهاننا الأسماء الكبرى مثل "ماجيلان"، لكن من منا يعرف لابو لابو؟ هذا السلطان الذي قاوم بشجاعة الاستعمار الإسباني وكان أول بطل قومي في الفلبين.
لابو لابو، الذي وُلد عام 1491م، كان سلطان جزيرة "ماكتان" في الفلبين في ذلك الوقت، وكان من أبرز الشخصيات الإسلامية الفلبينية في التاريخ. ورغم أن دينه لا يزال مثارًا للجدل، فإنه عُرف ببطولته في معركة ماكتان التي وقعت في 27 أبريل 1521م. المعركة كانت بينه وبين الرحالة الإسباني فيرناندو ماجيلان، الذي كان يقود بعثة إسبانية تهدف إلى فرض الهيمنة على جزر الفلبين. لكن ماجيلان، الذي كان يُعتبر مستكشفًا عظيمًا، قُتل على يد لابو لابو في تلك المعركة، مما حال دون أن يتمكن الإسبان من فرض استعمارهم على الفلبين لمدة 40 عامًا إضافية.
لابو لابو كان يرفض دفع الفدية للملك الإسباني، وكان ذلك أحد الأسباب التي أدت إلى النزاع مع ماجيلان. ورغم أن هذا الصراع أخر الاستعمار الإسباني للفلبين، إلا أن لابو لابو نال تقديرًا شعبيًا كبيرًا كـ "بطل قومي"، وتُوج بإقامة نصب تذكاري له في مانيلا وجزيرة سيبو. وقد وضعت صورته أيضًا على شعارات الشرطة ومكاتب حماية الحرائق في الفلبين، وذلك تكريمًا لبطولته.
لكن القصة هنا تبرز مدى تجاهل التاريخ لعدد من الرموز القوية في مواجهة الاستعمار، رغم أن هؤلاء المقاومين كانوا قد قدموا حياتهم لتحقيق الحرية لشعوبهم. ويبقى لابو لابو أحد تلك الشخصيات التي نادرًا ما يتم الإشارة إليها في السياقات الغربية.
ما يُظهر كيف يمكن لتاريخ شعوب بأكملها أن يُغيّب بسبب السجلات المهيمنة على مر العصور.
ربما آن الأوان أن نعيد قراءة التاريخ، لا لنمحو الماضي، بل لننصف الحقيقة.
فهل يمكننا، حقًا، إعادة كتابة التاريخ؟
زاهر ڤويس جميع الحقوق محفوظة © 2025
تعليقات
إرسال تعليق