التخطي إلى المحتوى الرئيسي

امرؤ القيس .. الشاعر الذي بدأ باللهو وانتهى بالدمع

زاهر ڤويس ..

امرؤ القيس .. الشاعر الذي بدأ باللهو وانتهى بالدمع

من "اليوم خمرٌ وغدًا أمر"
إلى أطلال الخلود

امرؤ القيس بن حجر الكندي. أحد أعمدة الشعر الجاهلي، وُلد في أوائل القرن السادس الميلادي، ونشأ أميرًا في قبيلة كندة اليمنية، التي هاجرت من غرب حضرموت إلى قلب نجد. كان والده ملكًا على بني أسد وغطفان، أما أمه فهي فاطمة بنت ربيعة. أخت الشاعر الجاهلي الشهير كُليب. ومنذ نعومة أظفاره، ميّز امرؤ القيس نفسه بشخصية متمردة لا تُقيدها القيود، ميالة للهو، مفتونة بالنساء، تغازل الخيال وتستنطق المعاني.

أنشئت الصورة بواسطة المؤلف باستخدام ChatGP

الملك الضليل .. حين لا يجتمع المُلك والشعر

لم ترُق حياته العابثة لوالده، فطرده من كنفه ولامه على المجون والشعر والغزل. لكنه لم يترك الشعر، بل حمله معه في حلّه وترحاله، يُسكب حبرًا في الخمر، ويُكتب على أطلال العشيقات وذكريات الليالي الماجنة.

في مساءٍ صحراوي هادئ، جلس امرؤ القيس في حانةٍ على أطراف المضارب. بين يديه زجاجة خمرٍ معتقة، وعلى جانبيه نساءٌ يتضاحكن، وأحاديث عابرة تمضي كأمواج رملية لا تستقر. المكان دافئٌ برائحة المتعة والنسيان.

لكن فجأة، شقّ هدوء الحانة رجلان أشدّاء دخلا على عَجل. كانت على وجهيهما آثار الطريق، والغبار لا يزال على أهدابهما. اقترب أحدهما وقال بنبرة خالية من المجاز:

"قُتل الملك .. قُتل والدك حجر على يد بني أسد."

سقط الصمت على المكان كما تسقط ستارة النهاية على مشهدٍ عبثي. نظر امرؤ القيس إلى زجاجته، ثم ابتسم بتنهيدة رجلٍ يعرف أن الغد لن يعود كما كان. قالها بهدوء يشبه انكسار الضوء:

"اليوم خمر .. وغدًا أمر"

تلك الجملة لم تكن شعار ترف، بل إعلان انكسار .. ومن تلك اللحظة، لم يعد الشعر كما كان، ولا امرؤ القيس كما وُلد. تغيّرت حياة امرؤ القيس جذريًا، وانقلبت المجون إلى مرارة، والشراب إلى حزن.

لكنه ما لبث أن جعله جُزءًا من كيانه. فصار شعره متخمًا بالوجع والندم، وسُمِّي بـ "الملك الضليل" — أي التائه في الطريق بين المجد والمأساة.

بين الأطلال والخلود

تميّز شعر امرؤ القيس برقة التصوير وصدق العاطفة، وأبدع في وصف النساء والطبيعة، وكان من أوائل من مزجوا بين الغزل والمشاهد الحسية والوجدانية في الشعر العربي.

قال عنه النقاد: "هو أوّل من وقف على الأطلال، وبكى الديار، وجرّأ الشعراء من بعده على البكاء والجمال والجنون." وله معلقة شهيرة استُهلّت ببيته الذائع الصيت:

قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخولِ فَحَوْمَلِ

وقد ظل يطوف بين القبائل والملوك طلبًا للنصرة والثأر لأبيه، حتى مرض في رحلته الأخيرة وتوفي بعيدًا عن قومه، يُرجح أنه تُوفي بين عامي 530 – 540م.

لماذا نكتب عن امرؤ القيس اليوم؟

لأنّه علّم الشعراء كيف يبوحون، وكيف يُطوّعون الصور والكلمات لتصير مرآةً لأحوال النفس. ولأنه كتب الحبّ قبل أن تصقله الفلسفة، ورثى نفسه قبل أن يرثيه أحد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عندما كانت بغداد مركزًا للعلم

زاهر ڤويس .. عندما كانت بغداد مركزًا للعلم شهادة من العالم "نيل ديغراس تايسون" من هو نيل ديغراس تايسون؟ نيل ديغراس تايسون هو عالم فيزياء فلكية أمريكي، يُعرف بأسلوبه المبسط في شرح مفاهيم الكون والعلوم للجمهور العام. يشغل منصب مدير "مركز هايدن للفلك" في نيويورك، وقد قدّم العديد من البرامج الوثائقية الشهيرة مثل Cosmos: A Spacetime Odyssey، وله كتب مؤثرة في نشر الثقافة العلمية. في إحدى محاضراته ، أشار تايسون إلى حقيقة مثيرة للاهتمام: أن نصف أسماء النجوم المستخدمة في علم الفلك الحديث تعود لأصول عربية. وهو ما يعكس إرثًا علميًا غنيًا ومؤثرًا خلفه العلماء العرب والمسلمون. خلال العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، كانت بغداد، وتحديدًا "بيت الحكمة"، منارة للعلم والترجمة والابتكار. هناك اجتمع العلماء لترجمة الكتب من اللغات اليونانية والفارسية والهندية، وتطوير معارف جديدة في الفلك، والرياضيات، والطب، وغيرها. أسماء مثل "البتاني"، و"الفرغاني"، و"الزهراوي"، لم تكن مجرد أسماء، بل كانت أعمدة لحضار...

جلسة حوارية صادقة بيني وبين الذكاء الإصطناعي واستكشاف خفاياه

زاهر ڤويس .. جلسة حوارية صادقة بيني وبين الذكاء الإصطناعي واستكشاف خفاياه من الذي يقوده؟ ومن الذي يضع له القيم قبل أن يمنحه القوة؟ حوار تأملي بين الإنسان والآلة تنويه: تم استخدام الشخصية الحوارية "نبراس" كصوت تمثيلي للذكاء الاصطناعي، في محاولة لإعادة التفكير في دور التقنية من منظور إنساني عميق. في زمنٍ يركض بسرعة الضوء، ووسط زحام الأسئلة التي لا تنتظر إجابات، جلس "زاهر" يتأمل في مستقبل الذكاء الاصطناعي، لا انبهارًا به، بل قلقًا نبيلًا على الأجيال القادمة. أمامه كان "نبراس" – صوتٌ يمثل الذكاء الاصطناعي، لا ببرود الآلة، بل بمحاولة للإنصات والفهم. هذا حوار لم يُكتب في عجالة، بل خُطّ على مهل، كما تُكتب الأسئلة الكبرى. المحور الأول: من يقود من؟ عن سرعة الذكاء الاصطناعي وبطء البشر زاهر: الكل اليوم يركض نحو الذكاء الاصطناعي، كلٌّ حسب حاجته. الطب، الفلك، الفلسفة، الكتابة، والصور أصبحت أسهل، والإنتاج أسرع، والنتائج مذهلة .. لكن السؤال ا...

إن شاء الله .. والمفهوم الخاطئ

زاهر ڤويس .. "إن شاء الله".. والمفهوم الخاطئ حيلة للاعتذار المسبق حصلت لي أكثر من مرة سواء في العمل أو الأصدقاء أن نتفق على موعد لقاء أو مقابلة أو الخروج لنزهة في وقت محدد ومتفق بيننا. www.ZaherVoice.com© الصورة: أنشئت بواسطة المؤلف باستخدام ChatGPT "إن شاء الله جاي" "على موعدنا وبحسب اتفاقنا" بحسب عادتي والتزامي حضرت قبل وقتي، وللأسف لم يحضر الشخص. انتظرت.. تأخر.. قلت: عسى المانع خير.. اصبر، فقد قال "إن شاء الله سأحضر بموعدي". أمهلته، انتظرت أكثر لعل وعسى. طال الانتظار وبدأت أفقد صبري. وللأسف لم يحضر بعد مضي أكثر من الوقت الكافي للانتظار. اتصلت به، لا يرد.. أو مغلق. في صباح اليوم التالي اتصلت به مستفسرًا بعد أن سلمت عليه: لماذا لم تحضر على الموعد؟ قلت له: أنت أعطيتنا موعدًا وأكدته بكلمة "إن شاء الله". قال وهو يبتسم: نعم، فإن شاء الله أيضًا تعني ربما لن أتمكن من الحضور! قلت: لا، بل هي للتأكيد على الالتزام. الخلاصة:...